فصل: النَّوع الثَّاني: الحسن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***


النَّوع الثَّاني‏:‏ الحسن

قال الخطَّابي‏:‏ هو مَا عُرِفَ مخرجهُ، واشْتهرَ رجالُهُ، وعليهِ مَدَارُ أكثر الحديث، ويقبلهُ أكثر العُلماء، واستعملهُ عامة الفُقَهاء

النَّوع الثاني‏:‏ الحسن‏.‏

للَّناس فيه عبارات‏:‏ قال أبو سُليمان الخطَّابي‏:‏ هو ما عرف مخرجهُ، واشتهر رجاله فأخرجَ بمعرفة المخرج المنقطع، وحديث المُدلس قبل بيانه‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ وهذا الحد صادق على الصَّحيح أيضًا، فيدخل في حدِّ الحسن‏.‏

وكذا قال ابن الصَّلاح وصاحب «المنهل الرَّوي»‏.‏

وأجاب التبريزي‏:‏ بأنَّه سَيأتي أنَّ الصَّحيح أخص منهُ، ودخُول الخاص في حدِّ العام ضرورى، والتقييد بما يُخرجه عنه مُخل للحد‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وهو مُتَّجه، قال‏:‏ وقد اعترض ابن رشيد ما نقل عن الخطَّابي بأنَّه رآهُ بخط الحافظ أبي علي الجياني، واستقرَّ حاله- بالسين المُهملة وبالقاف وبالحاء المُهملة دون راء في أوَّله- قال‏:‏ وذلك مردودٌ، فإنَّ الخَطَّابي قال ذلك في خُطبة «معالم السُّنن» وهو في النُّسخ الصَّحيحة كما نقل عنه، وليس لقوله‏:‏ واستقرَّ حاله، كبير معنى‏.‏

وقال ابن جَمَاعة يرد على هذا الحد‏:‏ ضعيف عُرف مخرجه، واشتهر رِجَاله بالضَّعف، ثمَّ قال الخطَّابي في تتمة كلامه‏:‏ وعليه مدار أكثر الحديث لأنَّ غالب الأحاديث لا تُبلغ رُتبة الصَّحيح ويقبلهُ أكثر العُلماء وإن كان بعض أهل الحديث شدَّد، فردَّ بكلِّ علَّة قادحة كانت أم لا‏.‏

كما رُوي عن ابن أبي حاتم أنَّه قال‏:‏ سألتُ أبي عن حديث، فقال‏:‏ إسناده حسن‏.‏ فقلت‏:‏ يُحتجُّ به‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏

واستعملهُ أي‏:‏ عمل به عامة الفُقهاء وهذا الكلام فهمه العِرَاقي زائدًا على الحد، فأخر ذكره، وفصله عنه‏.‏

وقال البَلْقيني‏:‏ بل هو من جُملة الحد، ليُخرج الصَّحيح الَّذي دخلَ فيه ما قبله، بل والضعيف أيضًا‏.‏

تنبيه‏:‏

حكى ابن الصَّلاح بعد كلام الخطَّابي‏:‏ أن التِّرمذي حدَّ الحسن‏:‏ بأن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون شاذًّا ويُروى من غير وجه نحو ذلك، وأنَّ بعض المتأخِّرين قال‏:‏ هو الذي فيه ضعف قريب مُحتمل ويُعمل به‏.‏

وقال‏:‏ كل هذا منهم لا يشفي الغليل، وليس في كلام التِّرمذي والخَطَّابي ما يفصل الحسن من الصَّحيح‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا قال الحافظ أبو عبد الله بن المواق‏:‏ لم يَخُص التِّرمذي الحسن بصفة تُميِّزه عن الصَّحيح، فلا يَكُون صحيحًا، إلاَّ وهو غيرُ شاذ، ورواته غيرُ مُتهمين، بل ثقات‏.‏

قال ابن سيِّد النَّاس‏:‏ بقي عليه أنَّه اشترط في الحسن أن يُروى من وجه آخر، ولم يشترط ذلك في الصَّحيح‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ إنَّه حسَّن أحاديث لا تُروى إلاَّ من وجه واحد، كحديث إسرائيل، عن يوسف بن أبي بُرْدة، عن أبيه، عن عائشة‏:‏ كان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرجَ من الخَلاء قال‏:‏ «غُفْرانكَ»‏.‏

فإنَّه قال فيه‏:‏ حديث حسن غريب، لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه، ولا نعرف في الباب إلاَّ حديث عائشة‏.‏

قال‏:‏ وأجابَ ابن سيِّد النَّاس عن هذا الحديث، بأنَّ الَّذي يحتاج إلى مَجِيئه عن غير وجه ما كانَ راويه في درجة المَسْتور، ومن لم تثبت عدالته‏.‏

قال‏:‏ وأكثر ما في الباب أنَّ التِّرمذي عرَّف بنوع منهُ لا بكلِّ أنواعه‏.‏

وقال شيخ الإسْلام‏:‏ قد مَيَّز التِّرمذي الحسن عن الصَّحيح بشيئين‏:‏

أحدهُمَا‏:‏ أن يَكُون راويه قاصرًا عن درجة راوي الصَّحيح، بل وراوي الحسن لِذَاتهِ، وهو أن يَكُون غيرُ مُتَّهم بالكذب، فيدخل فيه المستُور والمجهُول ونحو ذلك، ورَاوي الصَّحيح لا بد وأن يَكُون ثقة، وراوي الحسن لِذَاته لا بد وأن يكون موصُوفًا بالضَّبط، ولا يكفي كونه غير مُتَّهم‏.‏

قال‏:‏ ولم يعدل التِّرمذي عن قوله‏:‏ ثقات، وهي كلمة واحدة، إلى ما قاله، إلاَّ لإرادة قُصور رُواته عن وصف الثِّقة كما هي عادة البُلغاء‏.‏

الثَّاني‏:‏ مَجِيئه من غير وجه، على أنَّ عِبَارة التِّرمذي فيما ذكرهُ في العلل الَّتي في آخر «جامعه» وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن، فإنَّما أردنا به حُسن إسْنَاده إلى آخر كلامه‏.‏

قال ابن سيَّد النَّاس‏:‏ فلو قال قائل‏:‏ إنَّ هذا إنَّما اصْطلح عليه في كتابه ولم يقله اصْطلاحًا عامًا لكان له ذلك‏.‏

وقولُ ابن كثير‏:‏ هذا الَّذي رُوي عن التِّرمذي في أي كتاب قالهُ‏؟‏ وأين إسْناده عنه‏؟‏ مردودٌ بوجُوده في آخر «جامعه» كما أشرنا إليه‏.‏

وقال بعض المُتأخرين‏:‏ قول التِّرمذي مُرادف لقول الخطَّابي، فإنَّ قوله‏:‏ ويُروى نحوه من غير وجه، كقوله ما عُرف مخرجه، وقول الخطَّابي‏:‏ اشتهر رجاله، يعني به السَّلامة من وصمة الكذب، كقول التِّرمذي‏:‏ ولا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، وزاد التِّرمذي‏:‏ ولا يكون شاذًّا، ولا حاجة إليه، لأنَّ الشَّاذ يُنَافي عرفان المخرج، فكأنَّ المُصنِّف أسقطهُ لذلك‏.‏

لكن قال العِرَاقي‏:‏ تفسير قول الخطَّابي‏:‏ ما عرف مخرجه، بما تقدَّم من الاحتراز عن المُنقطع، وخبر المُدلِّس أحسن، لأنَّ السَّاقط منهُ بعض الإسناد، لا يعرف فيه مخرج الحديث، إذ لا يدرى من سقط، بخلاف الشَّاذ الَّذي أبرز كل رجاله، فعرف مخرج الحديث من أين‏.‏

وقال البَلْقيني‏:‏ اشْتهار الرِّجال أخص من قول التِّرمذي‏:‏ ولا يكون في الإسناد من يُتهم بالكذب، لِشُموله المستور‏.‏

وما حكاهُ ابن الصَّلاح عن بعض المُتأخِّرين أرادَ به ابن الجَوْزي، فإنَّه ذكر ذلك في «العللِ المُتناهية» وفي «المُوضوعات»‏.‏

قال ابن دقيق‏:‏ وليسَ ما ذكره مَضْبوطًا بضابط يتميَّز به القدر المُحتمل من غيره‏.‏

قال البدر بن جماعة‏:‏ وأيضًا فيه دور لأنَّه عرفهُ بصلاحيته للعمل به، وذلك يتوقَّف على معرفة كونهِ حسنًا‏.‏

قلتُ‏:‏ ليس قوله‏:‏ ويُعمل به من تمام الحدِّ، بل زائد عليه، لإفَادة أنَّه يجب العمل به كالصَّحيح، ويدل على ذلكَ أنَّه فصلهُ من الحد حيث قال‏:‏ ما فيه ضعف قريب محتمل، فهو الحديث الحسن، ويصلح البِنَاء عليه، والعمل به‏.‏

وقال الطِّيبي‏:‏ ما ذكرهُ ابن الجَوْزي، مَبْني على أنَّ معرفة الحسن موقُوفة على معرفة الصَّحيح والضعيف، لأنَّ الحسن وسط بينهما، فقولُه قريب، أي قريب مخرجه إلى الصَّحيح، محتمل، لكون رجاله مستُورين‏.‏

قال الشَّيخ‏:‏ هو قِسْمان، أحدهما ما لا يخلُو إسْنَاده من مستور لم تتحقَّق أهليته، وليسَ مُغفَّلا، كثير الخطأ، ولا ظهر منه سبب مُفْسق، ويَكُون متن الحَدِيث معروفًا برواية مثله، أو نحوه من وجهٍ آخر‏.‏

الثَّاني‏:‏ أن يَكُون راويه مشهورًا بالصِّدق والأمَانة، ولم يبلغ درجة الصَّحيح لِقُصُوره في الحفظِ والإتْقَان، وهو مُرتفع عن حالِ من يعد تفرده مُنكرًا‏.‏

قال الشَّيخ ابن الصَّلاح بعد حكايته الحُدود الثلاثة، وقوله ما تقدَّم‏:‏ قد أمعنتُ النَّظر في ذلك والبحث، جامعًا بين أطْراف كلامهم، مُلاحظًا مواقع استعمالهم، فتنقَّح لي واتَّضح أنَّ الحديث الحسن هو قِسْمان‏:‏ أحدُهما ما لا يخلُو إسنادُه من مستورٍ، لم تتحقَّق أهليته وليسَ مُغفَّلاً كثير الخطأ فيما يرويه، ولا هو مُتَّهم بالكذب في الحديث ولا ظهر منهُ سببٌ آخر مُفْسق ويَكُون متن الحديث مع ذلك معروفًا برواية مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر حتَّى اعتضد بمُتابعة من تابع راويه على مثلهِ أو بما له من شاهد، وهو ورُود حديث آخر نحوه، فيخرج بذلكَ عن أن يكون شَاذًّا مُنكرًا‏.‏

قال‏:‏ وكلام التِّرمذي على هذا القسم يتنزَّل‏.‏

القِسْم الثَّاني‏:‏ أن يَكُون راويه مشهورًا بالصِّدق والأمَانة ولكن لم يبلغ درجة الصَّحيح لقُصُوره عن رُواته في الحفظ والإتقان، وهو مع ذلك مُرْتفع عن حالِ من يعد تفرُّده أي‏:‏ ما ينفرد به من حديثه منكرًا‏.‏

قال‏:‏ ويُعتبر في كلِّ هذا مع سلامة الحديث، من أن يَكُون شاذًّا أو مُنكرًا، سلامته من أن يكون مُعلَّلا‏.‏

قال‏:‏ وعلى هذا القسم يتنزَّل كلام الخطَّابي‏.‏

قال‏:‏ فهذا الَّذي ذكرناهُ جامعٌ لمَا تفرَّق في كلام من بلغنَا كلامه في ذلك‏.‏

قال‏:‏ وكأنَّ التِّرمذي ذكر أحد نَوْعي الحسن، وذكر الخطَّابي النوع الآخر، مقتصرًا كل منهما على ما رأى أنَّه يشكل معرضًا عمَّا رأى أنَّه لا يشكل، أو أنَّه غفلَ عن البعض وذهلَ‏.‏ انتهى كلام ابن الصَّلاح‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ وعليه مُؤاخذات ومناقشات‏.‏

وقال ابن جماعة‏:‏ يرد على الأوَّل من القسمين الضَّعيف، والمُنقطع، والمُرْسل، الَّذي في رجالهِ مستور، وروى مثله أو نحوه من وجه آخر، وعلى الثاني المُرسل الَّذي اشتهر راويه بما ذَكَر، فإنَّه كذلك وليس بحسن في الاصْطلاح‏.‏

قال ولو قيلَ الحسن كل حديث خالٍ عن العلل، في سنده المتصل مستور، له به شاهد، أو مشهور قاصر عن درجة الإتقان، لكانَ أجمع لما حدَّدوه وأخْصر‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ لو قِيلَ‏:‏ الحسن مُسند من قرُب من درجة الثِّقة، أو مُرسل ثقة، وروى كلاهما من غير وجه، وسَلمَ من شُذوذ وعِلَّة، لكان أجمع الحُدُود وأضبطها وأبعد عن التَّعقيد‏.‏

وحد شيخ الإسْلام في «النخبة» الصَّحيح لِذَاته بما نقلهُ عدلٌ تام الضَّبط مُتَّصل السَّند، غير مُعلَّل ولا شاذ، ثمَّ قال‏:‏ فإن خفَّ بالضَّبط فهو الحسن لذَاته، فشركَ بينهُ وبين الصَّحيح في الشَّروط، إلاَّ إتْمام الضَّبط، ثمَّ ذكر الحسن لغيره بالاعتضاد‏.‏

وقال شيخنا الإمام تقي الدِّين الشَّمني‏:‏ الحسن خبرٌ مُتَّصل، قلَّ ضبط راويه العدل، وارتفع عن حال من يُعد تفرُّده مُنكرًا وليس بِشَاذ ولا مُعلَّل‏.‏

قال البَلْقيني‏:‏ الحَسَن ما توسط بين الصحيح والضعيف عند الناظر، كأنَّ شيئا يَنْقدح في نفس الحافظ، وقد تَقْصُر عِبَارته عنه كما قيلَ في الاستحسان، فلذلكَ صعب تعريفه، وسبقهُ إلى ذلكَ ابن كثير‏.‏

تنبيه‏:‏

الحَسَن أيضًا على مراتب كالصَّحيح، قال الذَّهبي‏:‏ فأعْلَى مراتبه‏:‏ بَهْز بن حَكِيم عن أبيه عن جدِّه، وعَمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدِّه، وابن إسحاق عن التَّيمي، وأمثال ذلك ممَّا قيل إنَّه صحيح، وهو من أدْنَى مراتب الصَّحيح، ثمَّ بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وتضعيفه، كحديث الحارث بن عبد الله، وعاصم بن ضَمْرة، وحجَّاج بن أرْطَاة، ونحوهم‏.‏

ثمَّ الحَسَنُ كالصَّحيح في الاحْتجاج به، وإن كانَ دُونه في القُوة، ولهذا أدْرجَتهُ طائفة في نوع الصَّحيح‏.‏

ثمَّ الحسن كالصَّحيح في الاحتجاج به، وإن كان دُونه في القُوَّة، ولهذا أدرجته طائفة في نوع الصَّحيح كالحاكم وابن حبَّان وابن خُزيمة، مع قولهم بأنَّه دُون الصَّحيح المُبين أولاً، ولا بدع في الاحتجاج بحديث له طريقان، لو انفردَ كل منهما لم يَكُن حُجَّة، كما في المُرسل إذا وردَ من وجه آخر مُسند، أو وافقهُ مُرسل آخر بشرطهِ كما سيجيء‏.‏ قالهُ ابن الصَّلاح‏.‏

وقال في «الاقتراح»‏:‏ ما قيل من أنَّ الحسن يُحتج به فيه إشْكال، لأنَّ ثَمَّ أوصَافًا يجب معها قَبُول الرِّواية إذا وجدت، فإن كانَ هذا المُسمَّى بالحسن، مِمَّا وجدت فيه على أقلِّ الدَّرجات الَّتي يجب معها القَبُول فهو صحيح، وإن لم تُوجد لم يَجُز الاحتجاج به، وإن سُمي حسنًا، اللهمَّ إلاَّ أن يُرد هذا إلى أمر اصْطلاحي، بأن يُقَال‏:‏ إنَّ هذه الصِّفات لها مراتب ودرجات، فأعْلاها وأوسطها يُسمَّى صحيحًا، وأدْنَاها يُسمَّى حسنًا، وحينئذ يرجع الأمر في ذلك إلى الاصْطلاح، ويَكُون الكل صحيحًا في الحقيقة‏.‏

وقَوْلُهم‏:‏ حديثٌ حسن الإسْنَاد أو صحيحهُ، دونَ قولهم‏:‏ حديثٌ صحيح أو حسنٌ، لأنَّه قد يَصِح أو يحسن الإسْنَادُ دُون المَتْن لِشُذوذٍ أو عِلَّة، فإن اقتصرَ على ذلك حافظٌ مُعتمد، فالظَّاهر صحَّة المَتْن وحُسْنهُ، وأمَّا قولُ التِّرمذي وغيرهُ‏:‏ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، فمعناهُ رُوي بإسْنَادينِ، أحدُهما يَقْتضي الصحَّة، والآخر الحُسْن‏.‏

وقولهم أي‏:‏ الحُفَّاظ هذا حديثٌ حسن الإسناد، أو صحيحه دون قولهم‏:‏ حديث صحيح أو حسن، لأنَّه قد يصح أو يحسن الإسناد لثقة رجاله دون المَتْن، لِشُذوذ أو عِلَّة وكثيرًا ما يُ«ستعمل ذلك الحاكم في «مُسْتدركه»‏.‏

فإن اقتصرَ على ذلك حافظٌ مُعتمد ولم يذكُر له عِلَّة ولا قادحًا فالظَّاهر صحَّة المَتْن وحُسْنه لأنَّ عدم العِلَّة والقادح هو الأصل والظَّاهر‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ والذي لا شكَّ فيه أنَّ الإمام منهم لا يعدل عن قوله‏:‏ صحيحٌ، إلى قوله‏:‏ صحيح الإسْنَاد، إلاَّ لأمر مَا‏.‏

وأمَّا قولُ التِّرمذي وغيره كعليِّ بن المَدِيني ويعقُوب بن شَيْبة‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وهو مِمَّا استشكل، لأنَّ الحسن قاصرٌ عن الصَّحيح، فكيف يجتمع إثبات القُصُور ونفيه في حديث واحد فمعناه أنَّه رُوي بإسْنَادين أحدهما يقتضي الصحَّة والآخر يَقْتضي الحسن فصحَّ أن يُقَال فيه ذلك، أي حسن باعتبار إسناد، صحيح باعتبار آخر‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ يَرُد على ذلك الأحاديث الَّتي قيل فيها ذلكَ، مع أنَّه ليس لها إلاَّ مخرج واحد، كحديث خرَّجه التِّرمذي من طريق العَلاء بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن أبي هُريرة‏:‏ «إذَا بَقِيَ نصفُ شَعْبان فلا تَصُومُوا»‏.‏ وقال فيه‏:‏ حسنٌ صحيحٌ، لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه على هذا اللَّفظ‏.‏

وأجاب بعض المتأخِّرين‏:‏ بأنَّ التِّرمذي، إنَّما يَقُول ذلك مُريدًا تفرُّد أحد الرُّواة عن الآخر، لا الفرد المُطْلق‏.‏

قال‏:‏ ويُوضح ذلكَ ما ذكرهُ في الفتن من حديث خالد الحَذَّاء، عن ابن سِيرين، عن أبي هُريرة يرفعه‏:‏ «من أشَارَ إلى أخيه بِحَديدة‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ الحديث، قال فيه‏:‏ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه‏.‏ فاسْتغربهُ من حديث خالد، لا مُطْلقًا‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وهذا الجَوَاب لا يَمْشِي في المَوَاضع الَّتي يقول فيها‏:‏ لا نعرفهُ إلاَّ من هذا الوجه، كالحديث السَّابق‏.‏

وقد أجابَ ابن الصَّلاح بِجَوابٍ ثانٍ هو‏:‏ أنَّ المُراد بالحَسَن اللُّغوي دُون الاصْطلاحي، كمَا وقع لابن عبد البرِّ، حيثُ روى في كتاب «العِلْم» حديث مُعاذ بن جبل مَرْفُوعًا‏:‏ «تعلَّموا العِلْم، فإن تَعلُّمه لله خَشْية وطَلبهُ عِبَادة‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث بِطُوله وقال‏:‏ هذا حديث حسنٌ جدًّا، ولكن ليس له إسْنَاد قوِّي‏.‏

فأراد بالحَسَن حُسن اللَّفظ، لأنَّه من رِوَاية مُوسى البَلْقاوي، وهو كذَّاب نُسِبَ إلى الوَضْع، عن عبد الرَّحيم العَمِّي، وهو مَتْروك‏.‏

وروينَا عن أُمَية بن خَالد قال‏:‏ قلتُ لِشُعبة تُحدِّث عن محمَّد بن عُبيد الله العَرْزمي، وتدع عبد الملك بن أبي سُليمان، وقد كان حسن الحديث‏؟‏ فقال‏:‏ من حُسْنها فررتُ‏.‏ يعني أنَّها مُنْكرة‏.‏

وقال النَّخعي‏:‏ كانُوا يكرهون إذا اجتمعُوا أن يُخرج الرَّجل أحسن ما عندهُ‏.‏

قال السَّمعاني‏:‏ عَنَي بالأحسن الغريب‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ ويلزم على هذا الجَوَاب أن يُطلق على الحديث المَوْضُوع إذا كان حسن اللفظ أنَّه حسن، وذلكَ لا يَقُوله أحد من المُحدِّثين، إذا جَرُوا على اصْطلاحهم‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ ويلزم عليه أيضًا أنَّ كل حديث يُوصف بصفة، فالحسن تابعه، فإن كل الأحاديث حَسَنة الألفاظ بليغة المَعَاني، ولمَّا رأينا الَّذي وقعَ له هذا كثير الفَرْق، فتارة يقول‏:‏ حسن فقط، وتارة صحيحٌ فقط، وتارة حسنٌ صحيحٌ، وتارة صحيحٌ غريبٌ وتارة حسنٌ غريبٌ، فعرفنا أنَّه لا مَحَالة جارٍ مع الاصْطلاح، مع أنَّه قال في آخر «الجامع»‏:‏ وما قُلنا في كتابنا‏:‏ حديث حسن، فإنَّما أردنا به حُسن إسْنَاده عندنَا، فقد صرَّح بأنَّه أرادَ حُسْن الإسناد، فانتفى أن يُريد حُسْن اللَّفظ‏.‏

وأجاب ابن دقيق العيد بِجَوابٍ ثالث، وهو‏:‏ أنَّ الحسن لا يُشْترط فيه القُصُور عن الصحَّة، إلاَّ حيثُ انفردَ الحَسَن، أمَّا إذا ارتفعَ إلى درجة الصِّحة، فالحَسَن حاصلٌ لا مَحَالة تبعًا للصحَّة، لأنَّ وجُود الدَّرجة العُليا، وهي الحفظ والإتْقان، لا يُنَافي وجُود الدُّنيا كالصِّدق، فيصح أن يُقَال‏:‏ حسنٌ، باعتبار الصِّفة الدُّنيا، صحيحٌ باعتبار العُليا، ويلزم على هذا أنَّ كل صحيح حسن، وقد سبقهُ إلى نحو ذلك ابن المَوَاق‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ وشبهُ ذلك قولهم في الرَّاوي‏:‏ صدوق فقط، وصدوق ضابط، فإنَّ الأوَّل قاصرٌ عن درجة رِجَال الصَّحيح، والثَّاني منهم، فكمَا أنَّ الجمع بينهما لا يَضُر ولا يُشْكل، فكذلك الجمعُ بين الصِّحة والحسن‏.‏

ولابن كثير جواب رابع هو‏:‏ أنَّ الجمع بين الصحَّة والحُسْن درجة متوسطة بين الصَّحيح والحَسَن‏.‏ قال‏:‏ فما يقول فيه‏:‏ حسنٌ صحيحٌ، أعلى رُتبة من الحَسَنِ ودون الصَّحيح‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وهذا تحكم لا دليل عليه، وهو بعيد‏.‏

ولشيخ الإسْلام جوابٌ خامس، وهو التوسط بين كلام ابن الصَّلاح وابن دقيق العيد، فيخص جواب ابن الصَّلاح بما له إسنادان فصاعدًا، وجواب ابن دقيق العيد بالفرد‏.‏

قال‏:‏ وجَوَابٌ سادس وهو الَّذي أرتضيه، ولا غُبَار عليه، وهو الَّذي مشى عليه في النُّخبة وشرحها‏:‏ أنَّ الحديث إن تعدَّد إسْنَاده، فالوصف راجعٌ إليه باعتبار الإسْنَادين، أو الأسانيد‏.‏

قال‏:‏ وعلى هذا، فمَا قيل فيه ذلك، فوق ما قيل فيه‏:‏ صحيح فقط، إذا كان فَرْدًا، لأنَّ كَثْرة الطُّرق تُقَوِّي، وإلاَّ فبحسب اختلاف النقاد في راويه، فيرى المُجتهد منهم بعضهم يَقُول فيه‏:‏ صَدُوق، وبعضهم يقول‏:‏ ثقة، ولا يترجَّح عندهُ قول واحد منهمَا، أو يترجَّح، ولكنَّه يُريد أن يُشَير إلى كلام النَّاس فيه فيقول ذلك، وكأنَّه قال‏:‏ حسنٌ عندَ قومٌ، صحيحٌ عند قَوْم‏.‏

قال‏:‏ وغاية ما فيه أنَّه حذف منه حرف التردد، لأنَّ حقَّه أن يقول‏:‏ حسن، أو حسنٌ صحيح، قال‏:‏ وعلى هذا ما قيل فيه ذلك، دُون ما قيل فيه‏:‏ صحيح، لأنَّ الجَزْم أقوى من التردد‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا الجواب مُركَّب من جواب ابن الصَّلاح وابن كثير‏.‏

وأمَّا تَقْسيم البَغَوي أحاديث «المَصَابيح» إلى حِسَان وصِحَاح، مُريدًا بالصِّحَّاح ما في «الصَّحيحين»، وبالحِسَان ما في «السُّنن» فليسَ بصوابٍ، لأنَّ في «السُّنن» الصَّحيح والحَسَن، والضَّعيف والمُنْكر‏.‏

وأما تقسيم البَغَوي أحاديث «المصابيح» إلى حِسَان وصحاح مُريدًا بالصحاح ما في «الصَّحيحين» وبالحِسَان ما في «السُّنن» فليسَ بصوابٍ، لأنَّ في «السنن» الصَّحيح والحسن، والضعيف والمُنكر كما سيأتي بيانه، ومن أطلق عليها الصحاح، كقول السَّلفي في الكتب الخمسة‏:‏ اتفق على صحتها عُلماء المشرق والمغرب، وكإطلاق الحاكم على الترمذي‏:‏ الجامع الصَّحيح، وإطلاق الخطيب عليه وعلى النَّسائي اسم الصحيح، فقد تساهل‏.‏

قال التاج التبريزي‏:‏ ولا أزال أتعجَّب من الشَّيخين- يعني ابن الصَّلاح والنووي- في اعتراضهما على البَغَوي، مع أنَّ المُقرَّر أنَّه لا مشاحة في الاصْطلاح، وكذا مشى عليه عُلماء العجم، آخرهم شيخنا العَلاَّمة الكافيجي في «مختصره»‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وأُجيب عن البَغَوي بأنَّه يُبيِّن عقب كل حديث الصَّحيح والحسن والغريب‏.‏

قال‏:‏ وليسَ كذلك، فإنَّه لا يُبين الصَّحيح من الحَسَن فيما أوردهُ من السُّنن، بل يسكت ويُبيِّن الغريب والضعيف غالبًا، فالإيراد باق في مَزْجهُ صحيح ما في السَّنن بما فيها من الحسن‏.‏

وقال شيخ الإسْلام‏:‏ أراد ابن الصَّلاح أن يعرف أنَّ البغوي اصْطَلح لنفسه أن يُسمِّي «السنن» الأربعة‏:‏ الحسان، ليسغتني بذلكَ عن أن يقول عقب كل حديث أخرجه أصحاب «السنن» فإنَّ هذا اصطلاح حادث ليس جاريًا على المُصطلح العُرْفي‏.‏

فُروعٌ‏:‏ أحدُهَا كتابُ التِّرمذي أصلٌ في معرفة الحَسَن، وهو الَّذي شَهَره‏.‏

فروعٌ‏:‏ أحدها في مظنة الحسن، كما ذكر في الصحَّيح مظانه، وذكر في كلِّ نوع مظانه من الكتب المُصنَّفة فيه إلاَّ يسيرا نبَّه عليه كتاب أبي عيسى التِّرمذي أصلٌ في معرفة الحسن، وهو الَّذي شهره وأكثر من ذكره‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ ويُوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطَّبقة التي قبله، كأحمد والبُخَاري وغيرهما‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وكذا مشايخ الطَّبقة الَّتي قبل ذلك كالشَّافعي، قال في اختلاف الحديث عند ذكر حديث ابن عُمر‏:‏ لقد ارتقيتُ على ظهرِ بيت لنَا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ حديث ابن عُمر مسند حسن الإسناد‏.‏

وقال فيه أيضًا‏:‏ وسمعتُ من يروي بإسْنَاد حسن‏:‏ أنَّ أبا بكرة ذكرَ للنبَّي صلى الله عليه وسلم أنَّه ركعَ دُونَ الصَّف‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وكذا يعقوب بن شَيْبة في «مسنده» وأبو علي الطُّوسي أكثرا من ذلك، إلاَّ أنَّهما ألَّفا بعد الترمذي‏.‏

وتختلفُ النُّسخ منهُ في قوله‏:‏ حسنٌ، أو حسنٌ صحيحٌ، ونحوه، فيَنْبغي أن تعتني بِمُقابلة أصْلكَ بأصُول مُعتمدةٍ، وتَعتمد ما اتَّفقتْ عليه، ومن مَظَانِّه «سُنن» أبي داود، فقد جاء عنهُ أنَّه يذكر فيه الصَّحيح وما يُشبهه ويُقَاربه، وما كانَ فيه وهنٌ شَديد بيَّنهُ، وما لم يذكر فيه شَيئًا فهو صالح، فعلَى هذا ما وجدنَا في كتابه مُطْلقًا ولم يُصَحِّحه غيرهُ من المُعتمدينَ ولا ضعَّفهُ، فهو حسنٌ عند أبي داود‏.‏

وتختلف النُّسخ منه أي‏:‏ من كتاب التِّرمذي في قوله‏:‏ حسن، أو حسن صحيح ونحوه، فيَنْبغي أن تعتني بمُقَابلة أصلك بأصُول مُعتمدة، وتعتمد ما اتَّفقت عليه ومن مظانِّه أيضًا سُنن أبي داود، فقد جَاء عنه أنَّه يذكر فيه الصَّحيح وما يُشبههُ ويُقَاربه، وما كان فيه وهن شديد بيَّنه، وما لم يذكر فيه شيئا فهو صالح قال وبعضها أصح من بعض‏.‏

فعَلَى هذا مَا وجدنا في كتابه مُطلقًا ولم يكن في أحد «الصَّحيحين» ولم يُصحِّحه غيره من المُعتمدين الَّذين يُميزون بين الصَّحيح والحسن ولا ضعفهُ، فهو حسنٌ عندَ أبي داود لأنَّ الصَّالح للاحْتجاج لا يَخْرج عنهما، ولا يَرْتقي إلى الصِّحة إلاَّ بنص، فالأحوط الاقتصار على الحسن، وأحوط منه التعبير عنه بصالح‏.‏

وبهذا التَّقرير يندفع اعتراض ابن رشيد بأنَّ ما سكتَ عليه قد يَكُون عنده صحيحًا، وإن لم يَكُن كذلك عند غيره‏.‏

وزادَ ابن الصَّلاح‏:‏ أنَّه قد لا يَكُون حَسَنًا عند غيره، ولا مُْندرجًا في حدِّ الحَسَن، إذ حَكَى ابن مَنْده أنَّه سمعَ مُحمَّد بن سعد الباوردي يَقُول‏:‏ كان من مذهب النَّسائي أن يُخرِّج عن كلِّ من لم يُجْمع على تَرْكه‏.‏

قال ابن منده‏:‏ وكذلك أبو داود يأخذ مأخذه، ويُخرِّج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، لأنَّه أقوى عنده من رأى الرجال‏.‏

وهذا أيضًا رأي الإمام أحمد، فإنَّه قال‏:‏ إنَّ ضعيف الحديث أحب إليه من رأى الرِّجال، لأنَّه لا يُعدل إلى القياس، إلاَّ بعد عدم النص‏.‏

وسيأتي في هذا البحث مزيدُ كلام حيث ذكر المصنِّف العمل بالضَّعيف، فعلى ما نُقل عن أبي داود يُحتمل أن يُريد بقوله‏:‏ صالح، الصَّالح للاعتبار دُون الاحْتجاج، فيَشْمل الضَّعيف أيضًا، لكن ذكر ابن كثير أنَّه روى عنه، وما سكت عنه فهو حسنٌ، فإن صحَّ ذلك فلا إشْكَال‏.‏

تنبيه‏:‏

اعترض ابن سيِّد النَّاس ما ذكر في شأن «سنن» أبي داود، فقال‏:‏ لم يَسِم أبو داود شيئا بالحسن، وعمله في ذلك شبيه بعمل مسلم، الَّذي لا ينبغي أن يحمل كلامه على غيره، أنَّه اجتنب الضَّعيف الواهي، وأتى بالقِسْمين الأول والثاني، وحديث من مثل به من الرُّواة من القسمين الأول والثَّاني موجود في كتابه، دون القسم الثالث، قال‏:‏ فهلا ألزم مسلم من ذلك ما ألزم به أبو داود، فمعنى كلامهما واحد‏.‏

قال‏:‏ وقول أبي داود‏:‏ وما يُشبهه، يعني في الصِّحة، ويُقاربه يعني فيها أيضًا هو نحو قول مسلم‏:‏ ليسَ كل الصَّحيح نجدهُ عند مالك وشُعبة وسُفيان، فاحتاج أن يَنزلَ إلى مثل حديث ليثَ بن أبي سُليم وعَطَاء بن السَّائب ويزيد بن زياد، لما يَشْمل الكل من اسم العَدَالة والصِّدق، وإن تَفاوتُوا في الحِفْظِ والإتقان، ولا فرقَ بين الطَّريقين، غير أنَّ مُسلمًا شرطَ الصَّحيح، فيُخرج من حديث الطَّبقة الثَّالثة، وأبا داود لم يَشْترطه، فذكر ما يشتد وهنهُ عنده، والتزم البيان عنه‏.‏

قال‏:‏ وفي قول أبي داود‏:‏ إنَّ بعضها أصح من بعض ما يُشير إلى القَدْر المُشترك بينهما في الصِّحة وإن تَفاوتت لِمَا يقتضيه صيغةُ أفْعَل في الأكثر‏.‏

وأجابَ العِرَاقي‏:‏ بأنَّ مُسلمًا التزمَ الصَّحيح بل المُجْمع عليه في كتابهِ، فليسَ لنا أن نحكم على حديث خرَّجه بأنَّه حسن عنده، لما عرف من قُصُور الحسن عن الصَّحيح، وأبو داود قال‏:‏ ما سكتَ عنه فهو صالح، والصَّالح يشمل الصَّحيح والحسن، فلا يرتقي إلى الأوَّل إلاَّ بيقين‏.‏

وثَمَّ أجْوبة أُخرى‏:‏

منها‏:‏ أنَّ العملين إنَّما تشابها في أنَّ كُلاًّ أتى بثلاثة أقْسَام، لكنها في «سُنن» أبي داود راجعة إلى مُتون الحديث، وفي مسلم إلى رجاله، وليس بين ضعف الرَّجل وصحة حديثه مُنافاة‏.‏

ومنها‏:‏ أنَّ أبا داود قال‏:‏ ما كان فيه وهن شديد بينتُه، ففهم أنَّ ثَمَّ شيئا فيه وهن غير شديد لم يلتزم بيانه‏.‏

ومنها‏:‏ أنَّ مسلما إنَّما يروي عن الطَّبقة الثَّالثة في المُتَابعات لينجبر القُصُور الَّذي في رواية من هو من الطَّبقة الثانية، ثُمَّ أن يقل من حديثهم جدَّا، وأبو داود بخلاف ذلك‏.‏

فوائد‏:‏

الأولى‏:‏ من مظان الحَسَن أيضًا «سنن» الدَّارقُطْني، فإنَّه نصَّ على كثير منه قاله في «المَنْهل الرَّوي»‏.‏

الثَّانية‏:‏ عِدَّة أحاديث كتاب أبي داود أربعة آلاف وثمان مئة حديث، وهو روايات، أتمها رواية أبي بكر بن دَاسة والمُتَّصلة الآن بالسَّماع رواية أبي علي اللؤلؤي‏.‏

الثَّالثة‏:‏ قال أبو جعفر بن الزُّبير‏:‏ أولى ما أرشد إليه ما اتَّفق المُسلمون على اعتماده، وذلكَ الكُتب الخمسة، و«المُوطأ» الَّذي تقدَّمها وضعًا، ولم يتأخَّر عنها رُتبة، وقد اختلفت مقاصدهم فيها، وللصَّحيحين فيها شُفوف، وللبُخاري لمن أرادَ التَّفقُّه مقاصد جليلة، ولأبي داود في حصر أحاديث الأحكام واستيعابها ما ليسَ لغيره، وللتِّرمذي في فُنون الصِّناعة الحديثية ما لم يُشَاركه غيره، وقد سلكَ النَّسائي أغمض تلكَ المَسَالك وأجلها‏.‏

وقال الذَّهبي‏:‏ انحطت رُتبة «جامع» التِّرمذي عن «سُنن» أبي داود والنَّسائي لإخراجه حديث المَصْلوب والكَلْبي وأمثالهما‏.‏

وأمَّا «مُسْند» أحمد بن حنبل، وأبي داود الطَّيالسي وغيرهما من المسانيد، فلا تلتحق بالأصُول الخَمْسة وما أشْبهها في الاحْتجَاج بها والرُّكُون إلى ما فيها‏.‏

وأمَّا «مسند» الإمام أحمد بن حنبل، وأبي داود الطَّيالسي وغيرهما من المَسَانيد‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ كمُسند عُبيد الله بن مُوسى، وإسْحَاق بن راهويه، والدَّارمي، وعبد بن حُميد، وأبي يَعْلى المَوْصلي، والحسن بن سُفيان، وأبي بكر البَزَّار، فهؤلاء عادتهم أن يُخرجوا في مسند كلِّ صحابي ما رووه من حديثه، غير مُقيدين بأن يكون مُحتجًّا به أولا، فلا تلتحق بالأصُول الخمسة وما أشْبهها‏.‏

قال ابن جَمَاعة‏:‏ من الكُتب المبوبة كسنن ابن ماجة في الاحتجاج بها والرُّكون إلى ما فيها لأنَّ المُصنَّف على الأبواب إنَّما يُورد أصح ما فيه، ليصلح للاحتجاج‏.‏

تنبيهات‏:‏

الأوَّل‏:‏ اعْتُرض على التمثيل «بمسند» أحمد بأنَّه شرط في «مسنده» الصَّحيح‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ ولا نُسَلِّم ذلك، والَّذي رواه عنه أبو موسى المَديني‏:‏ أنَّه سُئلَ عن حديث فقال‏:‏ انظرُوه، فإن كان في «المسند» وإلاَّ فليسَ بحجَّة، فهذا ليس بصريح في أنَّ كل ما فيه حُجَّة، بل ما ليس فيه ليس بحجَّة‏.‏

قال‏:‏ على أنَّ ثَمَّ أحاديث صحيحة مُخرَّجة في «الصَّحيحين» وليست فيه، منها حديث عائشة في قِصَّة أمِّ زَرْع، قال‏:‏ وأمَّا وجُود الضَّعيف فيه فهو مُحقق، بل فيه أحاديث موضُوعة جمعتُها في جُزء، ولعبد الله ابنه فيه زيادات، فيها الضَّعيف والموضُوع‏.‏ انتهى‏.‏

وقد ألَّف شيخ الإسْلام كتابًا في ردِّ ذلك سمَّاه «القول المُسَدَّد في الذَّبِّ عن المُسْند» قال في خُطْبته‏:‏ فقد ذكرتُ في هذه الأوراق ما حضرني من الكلام على الأحاديث، التي زعم بعض أهل الحديث أنَّها موضوعة، وهي في «مسند» أحمد ذبًّا عن هذا التَّصنيف العظيم، الذي تلقته الأمَّة بالقَبُول والتَّكريم، وجعله إمامهم حجة يرجع إليه ويعوَّل عند الاختلاف عليه‏.‏ ثمَّ سردَ الأحاديث التي جمعها العِرَاقي، وهي تسعة وأضافَ إليها خمسة عشر حديثًا أوردهَا ابن الجوزي في «الموضُوعات» وهي فيه، وأجَاب عنها حديثًا حديثًا‏.‏

قلتُ‏:‏ وقد فاتهُ أحاديث أُخر أوردها ابن الجوزي، وهي فيه وجمعتها في جُزء سمَّيتهُ «الذيل الممهد» مع الذبِّ عنها، وعدتها أربعة عشر حديث‏.‏

وقال شيخ الإسلام في كتابه «تعجيل المنفعة في رجال الأربعة»‏:‏ ليس في «المسند» حديث لا أصل له، إلاَّ ثلاثة أحاديث أو أربعة، منها‏:‏ حديث عبد الرَّحمن ابن عوف أنَّه يدخل الجنَّة زحفًا‏.‏

قال‏:‏ والاعتذار عنهُ، أنَّه مِمَّا أمر أحمد بالضَّرب عليه، فتُركَ سهوًا، أو ضُرب وكتب من تحت الضَّرب‏.‏

وقال في كتابه «تجريد زوائد مُسند البزَّار»‏:‏ إذا كان الحديث في «مسند» أحمد لم نَعْزُه إلى غيره من المسانيد‏.‏

وقال الهيثمي في «زوائد المسند»‏:‏ «مسند» أحمد أصح صحيحًا من غيره‏.‏

وقال ابن كثير‏:‏ لا يُوازي «مسند» أحمد كتاب مسند في كثرته وحُسْن سياقاته، وقد فاتهُ أحاديث كثيرة جدًّا، بل قيل‏:‏ إنَّه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في «الصَّحيحين» قريبًا من مئتين‏.‏

وقال الحُسيني في كتابه «التذكرة في رجال العشرة»‏:‏ عِدَّة أحاديث «المسند» أربعون ألفا بالمُكرَّر‏.‏

الثاني‏:‏ قيل‏:‏ وإسحاق يُخرِّج أمثل ما ورد عن ذلك الصحابي، فيما ذكره أبو زرعة الرَّازي عنه‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ ولا يلزم من ذلك أن يكون جميع ما فيه صحيحًا، بل هو أمثله بالنسبة لما تركه، وفيه الضَّعيف‏.‏

الثالث‏:‏ قيل‏:‏ و«مسند» الدَّارمي ليسَ بمسند، بل هو مُرتب على الأبواب، وقد سمَّاه بعضهم بالصَّحيح‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ ولم أر لمغلطاي سلفًا في تسمية الدَّارمي «صحيحًا» إلاَّ قوله أنَّه رآه بخط المُنذري، وكذا قال العلائي‏.‏

وقال شيخ الإسْلام‏:‏ ليسَ دُون «السُّنن» في الرُّتبة، بل لو ضُمَّ إلى الخمسة لكان أولى من ابن ماجه، فإنَّه أمثل منه بكثير‏.‏

وقال العِرَاقيُّ‏:‏ اشتهر تسميته بالمسند، كما سمَّى البُخَاري كتابه بالمسند، لكون أحاديثه مسندة‏.‏

قال‏:‏ إلاَّ أنَّ فيه المُرسل، والمُعضل، والمُنقطع، والمقطُوع كثيرًا، على أنَّهم ذكروا في ترجمة الدَّارمي أنَّ له «الجامع» و«المسند» و«التفسير» وغير ذلك، فلعلَّ الموجود الآن هو «الجامع» و«المسند» فُقِدَ‏.‏

الرابع‏:‏ قيل‏:‏ و«مسند» البزَّار يُبين فيه الصَّحيح من غيره‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ ولم يفعل ذلكَ إلاَّ قليلاً، إلاَّ أنَّه يتكلم في تفرد بعض رواة الحديث، ومُتابعة غيره عليه‏.‏

فائدة‏:‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ يقال‏:‏ إنَّ أوَّل مسند صُنِّفَ «مسند الطَّيالسي»‏.‏

قيل‏:‏ والَّذي حمل قائل هذا القول عليه، تقدُّم عصر أبي داود على أعْصَار من صنَّف المَسَانيد، فظنَّ أنَّه هو الَّذي صنَّفه وليس كذلك، فإنَّما هو من جمع بعض الحُفَّاظ الخُراسانيين، جمعَ فيه ما رواه يُونس بن حبيب خاصة عنه، وشذَّ عنهُ كثير منه، ويُشْبه هذا «مُسند» الشَّافعي، فإنَّه ليس تصنيفه، وإنَّما لقطه بعض الحُفَّاظ النيسابوريين من مسمُوع الأصم من «الأم» وسمعهُ عليه، فإنَّه كان سمع الأم أو غالبها على الرَّبيع عن الشافعي، وعَمَّر فكان آخر من روى عنه، وحصل له صَمَم، فكان في السَّماع عليه مشقَّة‏.‏

الثَّاني‏:‏ إذا كان رَاوي الحديث مُتأخِّرًا عن درجة الحافظ الضَّابط، مشهورًا بالصِّدق والسَّتر، فَرُوي حديثه من غير وجه، قَوِيَ وارتفعَ من الحَسَنِ إلى الصَّحيح‏.‏

الثَّاني‏:‏ إذا كان راوي الحديث متأخرًا عن درجة الحافظ الضابط مع كونه مشهورا بالصِّدق والستر وقد علم أنَّ من هذا حاله فحديثه حسن فرُوي حديثه من غير وجه ولو وجهًا واحدًا كما يُشير إليه تعليل ابن الصَّلاح قوي بالمُتابعة، وزال ما كُنَّا نخشاهُ عليه من جهة سوء الحفظ، وانجبر بها ذلك النَّقص اليسير وارتفع حديثه من درجة الحسن إلى درجة الصَّحيح‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ مثالهُ حديث محمَّد بن عَمرو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هُريرة، أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لَوْلا أن أشُق على أمَّتي، لأمرتهُم بالسِّواكِ عند كُلِّ صَلاة»‏.‏

فمحمَّد بن عَمرو بن عَلْقمة من المَشْهورين بالصِّدق والصِّيانة، لكنَّهُ لم يكن من أهل الإتقان، حتَّى ضعَّفه بعضهم من جهة سُوء حفظه، ووثَّقه بعضهم لِصْدقه وجَلالتهِ، فحديثهُ من هذه الجهة حسن، فلمَّا انضمَّ إلى ذلك كونه رُويَ من أوجه أُخر حكمنا بصحَّته، والمتابعة في هذا الحديث ليست لمحمَّد عن أبي سلمة، بل لأبي سلمة عن أبي هُريرة، فقد رواه عنه أيضًا الأعرج وسعيد المقبُري وأبوه وغيرهم‏.‏

ومثَّل غير ابن الصَّلاح بحديث البُخَاري عن أُبيِّ بن العبَّاس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جدِّه في ذِكْر خَيْل النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ أُبيًّا هذا ضعفه لِسُوء حِفْظه أحمد وابن معين والنَّسائي، وحديثه حسن، لكن تابَعهُ عليه أخُوه عبد المُهيمن، فارْتقَى إلى دَرْجة الصحة‏.‏

الثَّالث‏:‏ إذا رُوي الحديث من وجُوهٍ ضعيفة، لا يلزم أن يَحْصُل من مجموعها حُسْنٌ، بل ما كان ضعفه لضعفِ حفظ رَاويه الصَّدوق الأمين، زالَ بمَجيئهِ من وجْهٍ آخرَ وصار حَسَنًا‏.‏

الثالث‏:‏ إذا رُوي الحديث من وجُوه ضعيفة، لا يلزم أن يَحصل من مجموعهَا أنَّه حسن، بل ما كان ضعفه لضعف حفظ راويه الصَّدوق الأمين، زال بمجيئه من وجه آخر وعرفنا بذلك أنَّه قد حفظه ولم يختل فيه ضبطه وصار الحديث حسنا بذلك‏.‏

كما رواه الترمذي وحسَّنه من طريق شُعبة عن عَاصم بن عُبيد الله، عن عبد الله بن عَامر بن ربيعة، عن أبيه‏:‏ أنَّ امْرأة من بني فزارة تزوَّجت على نعلين، فقال رَسُول لله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أرَضيتِ من نَفْسكِ ومَالكِ بنَعْلينِ‏؟‏» قالت‏:‏ نعم، فأجَازهُ‏.‏ قال التِّرمذي‏:‏ وفي الباب عن عُمر وأبي هُرَيْرة وعائشة وأبي حَدْرد، فعاصم ضعيف لِسُوء حفظه، وقد حسَّن له الترمذي هذا الحديث لمَجيئه من غير وجه‏.‏

وكَذَا إذا كَانَ ضعفُهَا لإرْسَالٍ زالَ بمجيئهِ من وجْهٍ آخر، وأمَّا الضَّعف لِفسْقِ الرَّاوي فلا يُؤثر فيه موافقة غيره‏.‏

وكذا إذا كان ضعفُهَا لإرسالٍ أو تدليس، أو جهالة رجال، كمَا زادهُ شيخ الإسلام زال بمجيئه من وجه آخر وكان دون الحسن لذاته‏.‏

مثالُ الأوَّل يأتي في نوع المُرْسل‏.‏

ومثال الثَّاني ما رواهُ الترمذي وحسَّنه من طريق هُشيم، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرَّحمن بن أبي لَيْلَى، عن البراء بن عازب مَرْفوعًا‏:‏ «إنَّ حقًّا على المُسلمين أن يَغْتسلُوا يوم الجُمُعة، وليَمَس أحدهُم من طيب أهْلهِ، فإن لَمْ يَجِد، فالمَاء لهُ طِيب»‏.‏

فهُشَيم موصُوفٌ بالتَّدليس، لكن لمَّا تابعهُ عند التِّرمذي أبو يَحْيى التَّيمي، وكان للمَتْن شَوَاهد من حديث أبي سعيد الخُدْري وغيرهُ حسَّنه‏.‏

وأمَّا الضَّعيف لفسق الرَّاوي أو كذبهُ فلا يؤثر فيه مُوافقة غيره له إذَا كانَ الآخر مثلهُ، لقوة الضَّعف وتقاعد هذا الجَابر‏.‏

نعم، يَرْتقي بمجموع طُرقه عن كَوْنهِ مُنْكرًا، أو لا أصل له، صرَّح به شيخ الإسْلام‏.‏

قال‏:‏ بَلْ ربَّما كَثُرت الطُّرق، حتَّى أوصلتهُ إلى درجة المَسْتُور، أو السَّيء الحفظ، بحيث إذا وجد له طريق آخر، فيه ضعفٌ قريب مُحتمل، ارتقَى بمجمُوع ذلك إلى درجة الحَسَن‏.‏

خاتمة‏:‏

من الألْفَاظ المُسْتعملة عندَ أهل الحديث في المَقْبُول‏:‏ الجيِّد، والقَوي، والصَّالح، والمَعْرُوف، والمحفوظ، والمُجوَّد، والثَّابت‏.‏

فأمَّا الجيِّد، فقال شيخُ الإسْلام في الكلام على أصح الأسانيد، لمَّا حكى ابن الصَّلاح عن أحمد بن حنبل‏:‏ أنَّ أصحها الزُّهْري عن سالم عن أبيه، عبارة أحمد‏:‏ أجْود الأسَانيد، كذا أخرجهُ الحاكم‏.‏

قال‏:‏ هذا يدل على أنَّ ابن الصَّلاح يرى التَّسوية بين الجيِّد والصَّحيح، وكذا قال البَلْقيني، بعد أن نقل ذلك، من ذلك يُعلم أنَّ الجَوْدة يُعبَّر بها عن الصحة‏.‏

وفي «جامع» التِّرمذي في الطب‏:‏ هذا حديث جَيِّد حسن، وكذا قال غيره، لا مُغَايرة بين جَيَّد وصحيح عندهم، إلاَّ أنَّ الجهبذ منهم لا يعدل عن صحيح إلى جيَّد، إلاَّ لِنُكتة، كأنْ يرتقي الحديث عندهُ، عن الحسن لذاتهِ، ويتردَّد في بُلوغه الصَّحيح فالوَصْف به أنْزل رُتْبة من الوَصْف بصحيح، وكذا القوي‏.‏

وأمَّا الصَّالح فقد تقدَّم في شأن «سنن» أبي داود أنَّه شَامل للصَّحيح والحَسَن، لصلاحيتهما للاحتجاج، ويُسْتعمل أيضًا في ضعيف يَصْلح للاعتبار‏.‏

وأمَّا المعرُوف، فهو مُقَابل المُنْكر، والمحفُوظ مُقابل الشَّاذ، وسيأتي تقرير ذلك في نوعيهمَا‏.‏

والمُجوَّد والثَّابت يَشْملان أيضًا الصَّحيح والحسن‏.‏

قلتُ‏:‏ ومن ألْفَاظهم أيضًا‏:‏ المُشبه، وهو يُطلق على الحسن وما يُقَاربه، فهو بالنسبة إليه كنسبة الجَيِّد إلى الصَّحيح‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ أخرجَ عَمرو بن حُصين الكِلابي أوَّل شيء أحاديث مُشبهة حِسَانًا، ثُمَّ أخرجَ بعد أحاديث موضوعة، فأفسدَ علينا ما كتبنا‏.‏

النَّوع الثَّالث‏:‏ الضَّعيف

وهو ما لَمْ يَجْمع صِفةَ الصَّحيح أو الحَسَن‏.‏

النَّوع الثَّالث‏:‏ الضعيف‏.‏

وهو ما لم يجمع صفة الصَّحيح أو الحسن جمعهما تبعًا لابن الصَّلاح، وإن قيلَ إنَّ الاقتصار على الثَّاني أوْلَى، لأنَّ ما لم يجمع صِفة الحسن، فهو عن صفات الصحيح أبعد، ولذلك لم يذكره ابن دقيق العيد‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وقد قسمهُ ابن حبَّان إلى خمسين إلاَّ قِسْمًا‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ ولم نقف عليها‏.‏

ثمَّ قَسَمهُ ابن الصَّلاح إلى أقْسَام كثيرة، باعتبار فَقْدِ صفة من صِفَات القَبُول السِّتة، وهي الاتِّصال، والعَدَالة، والضَّبط، والمُتَابعة في المَسْتور، وعدم الشذُّوذ، وعدم العلَّة، وباعتبار فَقْدِ صفة، مع صفة أُخرى تليها أولاً، أو مع أكثر من صفة، إلى أن تفقد الستة، فبلغت فيما ذكره العِرَاقي في شرح الألفية اثنين وأربعين قِسْمًا، ووصله غيره إلى ثلاثة وستين‏.‏

وجمع في ذلك شيخنا قَاضي القُضَاة شرف الدِّين المَنَاوي كرَّاسة، ونوَّع ما فَقَد الاتِّصال، إلى ما سقط منه الصَّحابي، أو واحد غيره، أو اثنان، وما فقد العَدَالة، إلى ما في سنده ضعيف، أو مجهول، وقسمها بهذا الاعتبار إلى مئة وتسعة وعشرين قسمًا، باعتبار العقل، وإلى واحد وثمانين باعتبار إمْكَان الوجُود، وإن لم يتحقَّق وقُوعها، وقد كنتُ أردت بسطها في هذا الشَّرح‏.‏

ثمَّ رأيتُ شيخ الإسلام قال‏:‏ إنَّ ذلك تعب ليس وراءه أرب، فإنَّه لا يخلُو إمَّا أن يَكُون لأجل معرفة مراتب الضَّعيف، وما كان منها أضعف أولاً، فإن كان الأوَّل فلا يخلُو من أن يكون لأجل أن يُعرف أنَّ ما فقد من الشَّرط أكثر، أضعف أو لا، فإن كان الأوَّل فليسَ كذلك، لأنَّ لنا ما يفقد شرطًا واحدًا، أو يَكُون أضعف، لا يفقد الشروط الخمسة الباقية، وهو ما فقد الصدق، وإن كان الثاني فما هو‏؟‏ وإن كان لأمر غير معرفة الأضعف، فإن كان لتخصيص كل قسم باسم فليس كذلك، فإنَّهم لم يسموا منها إلاَّ القليل، كالمُعضل، والمُرْسل، ونحوهما، أو لمعرفة كم يبلغ قسما بالبسط، فهذه ثمرة مُرَّة، أو لغير ذلك، فما هو‏؟‏ انتهى‏.‏

فلذلك عدلتُ عن تسويد الأوراق بتسطيره‏.‏

ويتفاوتُ ضعفهُ، كصحَّة الصَّحيح‏.‏

ويتفاوت ضعفهُ بحسب شِدَّة ضعف رواته وخفته وقوله كصحَّة الصَّحيح إشَارة إلى أنَّ منه أوْهَى، كما أنَّ في الصَّحيح أصح‏.‏

قال الحاكم‏:‏ فأوهى أسانيد الصِّديق‏:‏ صدَقة الدَّقيقي، عن فَرْقد السَّبخي، عن مُرَّة الطيب عنه‏.‏

وأوهى أسانيد أهل البيت‏:‏ عَمرو بن شمر، عن جابر الجُعْفي، عن الحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه‏.‏

وأوهى أسانيد العُمريين‏:‏ محمَّد بن عبد الله بن القاسم بن عمر بن حفص بن عاصم، عن أبيه، عن جدِّه، فإنَّ الثلاثة لا يحتج بهم‏.‏

وأوْهَى أسانيد أبي هُريرة‏:‏ السَّري بن إسماعيل، عن داود بن يزيد الأوْدي، عن أبيه، عنه‏.‏

وأوْهَى أسَانيد عائشة‏:‏ نُسْخة عندَ البَصْريين عن الحارث بن شِبْل، عن أمِّ النُّعمان، عنها‏.‏

وأوْهَى أسَانيد ابن مسعود‏:‏ شَريك، عن أبي فزارة، عن أبي زيد، عنه‏.‏

وأوْهَى أسَانيد أنس‏:‏ داود بن المُحْبر، عن قَحْذم، عن أبيه، عن أبان بن أبي عيَّاش، عنه‏.‏

وأوْهَى أسانيد المَكِّيين‏:‏ عبد الله بن ميمون القَدَّاح، عن شهاب بن خِرَاش، عن إبراهيم بن يزيد الخوزي، عن عِكْرمة، عن ابن عبَّاس‏.‏

وأوْهَى أسانيد اليمانيين‏:‏ حفص بن عُمر العَدَني، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس‏.‏

قال البَلْقيني فيهما‏:‏ لعله أراد، إلاَّ عكرمة، فإن البُخَاري يحتج به‏.‏

قلت‏:‏ لا شك في ذلك‏.‏

وأمَّا أوْهَى أسانيد ابن عبَّاس مُطْلقا‏:‏ فالسُّدي الصَّغير محمد بن مروان، عن الكَلْبيِّ، عن أبي صالح، عنه‏.‏ قال شيخ الإسْلام‏:‏ هذه سلسلة الكَذِب، لا سِلْسلة الذَّهب‏.‏

ثمَّ قال الحاكم‏:‏ وأوْهَى أسانيد المِصْريين أحمد بن محمَّد بن الحجَّاج بن رِشْدين، عن أبيه، عن جدِّه، عن قُرَّة بن عبد الرَّحمن، عن كلِّ من رَوَى عنه، فإنَّها نُسْخة كبيرة‏.‏

وأوْهَى أسَانيد الشَّاميين‏:‏ محمَّد بن قَيْس المَصْلوب، عن عُبيد الله بن زحر، عن علي بن زيد، عن القاسم، عن أبي أُمَامة‏.‏

وأوْهَى أسَانيد الخُرَاسانيين‏:‏ عبد الرَّحمن بن مليحة، عن نَهْشل بن سعيد، عن الضحَّاك، عن ابن عبَّاس‏.‏

ومنهُ ما لهُ لَقَبٌ خاصٌّ، كالمُوضوع، والشَّاذ، وغيرهما‏.‏

ومنهُ أي‏:‏ الضعيف ما له لقب خاص، كالموضوع، والشَّاذ، وغيرهما كالمقلوب، والمُعلَّل، والمُضْطرب، والمُرْسل، والمُنْقطع، والمُعْضل، والمُنْكر‏.‏

فائدة‏:‏

صنَّف ابن الجوزي كتابًا في الأحاديث الواهية، وأوردَ فيه جُملاً، في كثير منها عليه انتقاد‏.‏

النَّوع الرَّابع‏:‏ المُسْند

قال الخطيب البَغْدادي‏:‏ هو عند أهل الحديث ما اتَّصلَ سَندهُ إلى مُنتهاه، وأكْثر ما يُسْتعمل فيمَا جَاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم دُون غَيْره‏.‏

وقال ابن عبد البَرِّ‏:‏ هو ما جَاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم خاصَّة، مُتَّصلاً كان، أو مُنْقطعًا‏.‏

وقال الحاكم وغيره‏:‏ لا يُسْتعمل إلاَّ في المَرْفُوع المُتَّصل‏.‏

النَّوع الرَّابع من مُطْلق أنواع عُلوم الحديث لا خُصوص التقسيم السَّابق، كما صرَّح به ابن الصَّلاح المُسند، قال الخطيب أبو بكر البَغْدادي في «الكفاية»‏:‏ هو عند أهل الحديث ما اتَّصل سندهُ من راويه إلى مُنتهاه فشمل المرفُوع، والموقوف، والمَقْطُوع، وتبعهُ ابن الصبَّاغ في العِدَّة، والمُراد اتِّصال السَّند ظاهرًا، فيدخل ما فيه انقطاع خفي، كعنعنة المُدلِّس والمُعَاصر الَّذي لم يثبت لُقياه، لإطباق من خرج الأسَانيد على ذلك‏.‏

قال المصنِّف كابن الصَّلاح‏:‏ و لكن أكثر ما يُستعمل فيما جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وقال ابن عبد البر في «التمهيد» هو ما جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم خاصة، مُتصلاً كان كمالك عن نافع عن ابن عُمر عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أو منقطعًا كمالك عن الزُّهْري عن ابن عبَّاس عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ فهذا مُسند، لأنَّه قد أُسند إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مُنقطع، لأنَّ الزُّهْري لم يسمع من ابن عبَّاس‏.‏

وعلى هذا القول يَسْتوي المُسند والمَرْفوع‏.‏

وقال شيخُ الإسْلام‏:‏ يلزم عليه أن يصدق على المُرْسل، والمُعْضل، والمُنْقطع إذا كانَ مرفوعًا، ولا قائل به‏.‏

وقال الحاكم وغيره‏:‏ لا يُستعمل إلاَّ في المَرْفوع المتصل بخلاف الموقُوف، والمُرْسل، والمُعْضل، والمُدلس، وحكاهُ ابن عبد البر عن قوم من أهل الحديث، وهو الأصح، وليس ببعيد من كلام الخطيب، وبه جزم شيخ الإسْلام في «النخبة» فيكُون أخص من المَرْفُوع‏.‏

قال الحاكم‏:‏ من شرط المُسْند أن لا يَكُون في إسْنَاده أُخبرتُ عن فُلان، ولا حُدِّثتُ عن فُلان، ولا بلغني عن فُلان، ولا أظنه مرفُوعًا، ولا رفعه فُلان‏.‏

النَّوع الخامس‏:‏ المُتَّصل

ويسمَّى المَوصُول، وهو ما اتَّصل إسْنَادهُ، مرفوعًا كان أو مَوْقوفًا على من كان‏.‏

النَّوع الخامس‏:‏ المُتَّصل ويسمَّى الموصول أيضًا‏.‏

وهو ما اتَّصل إسْنَاده قال ابن الصَّلاح‏:‏ بسماع كلِّ واحد من رُواته مِمَّن فوقهُ‏.‏

قال ابن جَمَاعة‏:‏ أو إجازته إلى مُنتهاه‏.‏

مرفوعًا كان إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم أو موقوفًا على من كان هذا اللفظ الأخير زادهُ المُصنِّف على ابن الصَّلاح، وتبعهُ ابن جَمَاعة، فقال‏:‏ على غيره، فشمل أقوال التابعين ومن بعدهم، وابن الصَّلاح قصرهُ على المرفوع والموقوف‏.‏

ثمَّ مثَّل الموقوف بمالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وهو ظاهر في اخْتِصَاصه بالموقُوف على الصَّحابي‏.‏

وأوضحهُ العِرَاقي فقال‏:‏ وأمَّا أقْوَال التَّابعين إذا اتَّصلت الأسَانيد إليهم، فلا يُسمونها مُتَّصلة في حالة الإطْلاق، أمَّا مع التَّقييد فجَائز وواقع في كلامهم، كقولهم‏:‏ هذا مُتَّصل إلى سعيد بن المُسيب، أو إلى الزُّهْري، أو إلى مالك ونحو ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ والنُّكتة في ذلك أنَّها تُسمَّى مَقَاطيع، فإطْلاق المُتَّصل عليها، كالوَصْف لشيء واحد بمُتضادين لغة‏.‏

النَّوع السَّادس‏:‏ المرفوع

وهو مَا أُضيف إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم خَاصَّة، لا يقع مُطْلقه على غَيْره، مُتَّصلاً كانَ أو مُنْقطعًا، وقيل‏:‏ هو ما أخبر به الصَّحابي عن فِعْلِ النَّبي صلى الله عليه وسلم أو قوله‏.‏

النَّوع السَّادس‏:‏ المرفُوع، وهو ما أُضيف إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم خَاصَّة قولاً كان، أو فعلاً، أو تقريرًا لا يقع مُطْلقه على غيره، مُتَّصلاً كانَ أو مُنقطعًا بسُقوط الصَّحابي منه أو غيره‏.‏

وقيل أي‏:‏ قال الخَطيب‏:‏ هو ما أخبر به الصَّحابي عن فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم أو قوله فأخرجَ بذلك المُرسل‏.‏

قال شيخُ الإسْلام‏:‏ الظَّاهر أنَّ الخَطِيب لم يَشْترط ذلكَ، وأنَّ كلامه خرج مَخْرج الغالب، لأنَّ غالب ما يُضَاف إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما يُضيفه الصَّحابي‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ ومن جعل من أهل الحديث المرفوع في مُقَابلة المُرسل – أي‏:‏ حيث يقولون مثلا‏:‏ رفعهُ فُلان، وأرسله فُلان- فقد عنى بالمرفوع المُتَّصل‏.‏

النَّوع السَّابع‏:‏ الموقوف

وهو المَرْويُّ عن الصَّحابة قولاً لهم، أو فِعْلاً، أو نحوه، مُتَّصلا كان، أو مُنقطعًا، ويُستعمل في غيرهم مُقيدًا، فيُقَال‏:‏ وقفهُ فُلان على الزُّهْري، ونحوهُ، وعند فُقهاء خُرَاسَان تسمية الموقُوف بالأثر، والمَرْفُوع بالخبر، وعند المُحَدِّثين كل هذا يُسمَّى أثرًا‏.‏

النَّوع السَّابع‏:‏ الموقُوف، هو المَرْوي عن الصَّحابة، قولا لهم، أو فعلا، أو نحوه أي تقريرًا متصلا كان إسناده أو مُنقطعا، ويُستعمل في غيرهم كالتَّابعين مُقيدًا، فيُقَال‏:‏ وقفهُ فُلان على الزُّهْري ونحوه، وعند فُقهاء خُراسان تَسْمية الموقُوف بالأثر، والمَرْفُوع بالخَبَرِ قال أبو القاسم الفُوراني‏:‏ منهم الفُقهَاء يقولون‏:‏ الخبر ما يُروى عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، والأثر ما يُروى عن الصَّحابة‏.‏

وفي «نُخْبة» شيخُ الإسْلام‏:‏ ويُقَال للموقُوف والمقطُوع‏:‏ الأثر‏.‏

قال المُصنِّف زيادة على ابن الصَّلاح‏:‏ وعند المُحدِّثين كل هذا يُسمَّى أثرًا لأنَّه مأخوذ من أثرت الحَدِيث، أي‏:‏ رويتهُ‏.‏

فروعٌ‏:‏ أحدُها‏:‏ قولُ الصَّحابي‏:‏ كُنَّا نَقُول، أو نفعل كذا، إن لم يُضفهُ إلى زَمَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فهو موقوفٌ، وإن أضَافهُ فالصَّحيح أنَّه مرفوعٌ‏.‏

فُروع ذكرها ابن الصَّلاح بعد النَّوع الثَّامن، وذكرها هُنَا أليق‏:‏

أحدها‏:‏ قول الصَّحابي‏:‏ كنَّا نقول كذا، أو نفعل كذا أو نرى كذا إن لم يُضفه إلى زمنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم فهو موقوف‏.‏

كذا قال ابن الصَّلاح تبعًا للخطيب، وحكاهُ المُصنِّف في «شرح مسلم» عن الجُمهور من المُحدِّثين وأصْحَاب الفقه والأصُول، وأطلق الحاكم والرَّازي والآمدي أنَّه مرفوعٌ، وقال ابن الصبَّاغ‏:‏ إنَّه الظَّاهر ومثَّله بقول عائشة رضي الله عنها‏:‏ كانت اليَدُ لا تُقطع في الشَّيء التَّافه‏.‏

وحكَاهُ المُصنِّف في «شرح المُهذَّب» عن كثير من الفُقهاء، قال‏:‏ وهو قوي من حيثُ المعنى، وصحَّحه العراقي وشيخ الإسلام‏.‏

ومن أمثلته‏:‏ ما رواه البُخَاري عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ كُنَّا إذا صَعَدنا كَبَّرنا، وإذا نزلنا سبَّحنا، وإن أضَافهُ فالصَّحيح الذي قطعَ به الجُمهور من أهل الحديث والأصُول أنَّه مرفوعٌ‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ لأنَّ ظاهر ذلكَ مُشْعر بأنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اطَّلع على ذلك، وقرَّرهُم عليه، لتوفُّر دواعيهم على سُؤالهم عن أمور دينهم، وتقريره أحد وجُوه السُّنن المرفوعة، ومن أمثلة ذلك قولُ جابر‏:‏ كُنَّا نعزل على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الشَّيخان‏.‏

وقوله‏:‏ كُنَّا نأكُل لُحُوم الخَيْل على عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ رواه النَّسائي وابن ماجه‏.‏

وقال الإمام الإسْمَاعيليُّ‏:‏ مَوْقوفٌ، والصَّواب الأوَّل، وكذا قوله‏:‏ كنَّا لا نَرَى بأسًا بكذا في حياة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، أو وهُو فينَا، أو بَيْنَ أظْهُرنا، أو كانُوا يَقُولون، أو يفعلُون، أو لا يَرَونَ بأسًا بكذا في حياته صلى الله عليه وسلم، فكلُّه مرفوعٌ، ومن المَرْفُوع‏:‏ قولُ المُغيرة‏:‏ كان أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقْرعُونَ بابهُ بالأظَافِيرِ‏.‏

وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي ‏:‏ إنَّه موقوف وهو بعيد جدًّا والصَّواب الأول‏.‏

قال المُصنِّف في «شرح مسلم»‏:‏ وقال آخُرونَ إن كان ذلك الفعل مِمَّا لا يَخْفَى غَالبًا كان مرفوعًا، وإلاَّ كان موقوفًا، وبهذا قطع الشَّيخ أبو إسْحاق الشِّيرازي، فإن كان في القِصَّة تصريحٌ باطِّلاعه صلى الله عليه وسلم، فمرفوعٌ إجماعًا، كقول ابن عُمر‏:‏ كُنَّا نقول ورَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيٌّ‏:‏ أفْضَل هذه الأمَّة بعد نبيها‏:‏ أبو بكر وعُمر وعُثمان، ويسمع ذلك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فلا يُنْكُره‏.‏ رواه الطَّبراني في «الكبير» والحديث في الصَّحيح بدُون التَّصريح المذكُور‏.‏

وكذا قوله أي الصَّحابي‏:‏ كُنَّا لا نَرَى بأسًا بكذَا في حياةِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، أو وهو فينَا، أو وهو بين أظْهُرنَا، أو كانُوا يَقُولون، أو يفعلون، أو لا يرون بأسا بكذا في حياته صلى الله عليه وسلم، فكله مرفوع مخرَّج في كُتب المَسَانيد ومن المرفوع‏:‏ قَولُ المُغيرة بن شعبة‏:‏ كان أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقْرعُونَ بابهُ بالأظَافير‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ بل هو أحْرَى باطِّلاعه صلى الله عليه وسلم عليهِ‏.‏

قال‏:‏ وقال الحاكم‏:‏ هذا يتوهَّمه من ليسَ من أهل الصَّنعة مُسْندًا، لِذْكر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وليسَ بمُسند، بل هو موقوفٌ، وواقفهُ الخَطِيب وليسَ كذلكَ، قال‏:‏ وقد كُنَّا أخذنَاهُ عليه، ثمَّ تأوَّلنَاه على أنَّه ليسَ بمُسند لفظًا، وإنَّما جعلناهُ مرفُوعًا من حيث المعنَى‏.‏

قال‏:‏ وكذا سائر ما سبق موقوفٌ لفظًا، وإنَّما جعلناهُ مرفوعًا من حيث المعنى‏.‏ انتهى‏.‏

والحديث المذكُور أخرجهُ البُخَاري في «الأدب» من حديث أنس‏.‏

وعن شيخ الإسْلام‏:‏ تعبَ النَّاس في التَّفتيش عليه من حديث المُغيرة، فلم يَظْفرُوا به‏.‏

قلتُ‏:‏ قد ظفرتُ به بلا تعب، ولله الحمد، فأخرجه البَيْهقي في «المَدْخل» قال‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ في «علوم الحديث» حدَّثني الزُّبير بن عبد الواحد، حدَّثنا محمَّد بن أحمد الزيبقي، حدَّثنا زكريا بن يحيى المِنْقري، حدثنا الأصْمعيُّ، حدَّثنا كَيْسان مولى هِشَام بن حَسَّان، عن محمَّد بن حَسَّان، عن محمَّد بن سيرين، عن المُغيرة بن شُعبة، فذكره، ثمَّ أشَار بعده إلى حديث أنس‏.‏

ومن المرفُوع أيضًا اتِّفاقًا‏:‏ الأحاديث الَّتي فيها ذكرُ صِفة النَّبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك‏.‏

أمَّا قولُ التَّابعي ما تقدَّم فليس بمرفوع قطعًا، ثمَّ إن لم يُضفهُ إلى زمنِ الصَّحابة فمقطوع لا موقوف، وإن أضافهُ فاحتمالان للعراقي، وجه المنع أنَّ تقرير الصَّحابي قد لا يُنسب إليه بِخلافِ تَقْرير النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال‏:‏ كانُوا يَفْعلون، فقال المُصنِّف في «شرح مسلم»‏:‏ لا يدلُّ على فعل جميع الأمَّة، بل البعض، فلا حُجَّة فيه، إلاَّ أن يُصرِّح بنقله عن أهل الإجماع، فيَكُون نقلاً له، وفي ثُبوته بخبر الواحد خلاف‏.‏

الثَّاني‏:‏ قول الصَّحابي‏:‏ أُمِرنَا بكذا، أو نُهينَا عن كذا، أو من السُّنة كذا، أو أُمِرَ بلالٌ أن يَشْفع الأذَان، وما أشبههُ، كلُّه مَرْفوعٌ على الصَّحيح الَّذي قالهُ الجمهورُ، وقيل‏:‏ ليسَ بمرفوعٍ‏.‏

الثَّاني‏:‏ قول الصَّحابي‏:‏ أُمرنا بكذا كقول أمِّ عطية‏:‏ أُمِرنَا أن نُخْرج في العيدين العَوَاتق وذَوَات الخُدُور، وأمر الحُيَّض أن يَعْتزلنَّ مُصَلَّى المُسلمين‏.‏ أخرجه الشَّيخان‏.‏

أو نُهينَا عن كذا كقولها أيضًا‏:‏ نُهينا عن اتِّباع الجَنائز، ولم يُعزم علينَا‏.‏ أخرجَاهُ أيضًا‏.‏

أو من السُّنة كذا كقولِ علي‏:‏ من السُّنة وضعُ الكفِّ على الكفِّ في الصَّلاة تحت السُّرة‏.‏ رواه أبو داود في رواية ابن دَاسةَ وابن الأعْرَابي‏.‏

أو أُمِرَ بلالٌ أن يَشْفع الأذان ويُوتر الإقَامة‏.‏ أخرجاهُ عن أنس‏.‏

وما أشبههُ، كُله مرفوعٌ على الصَّحيح الَّذي قالهُ الجُمهور‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ لأنَّ مُطْلق ذلك يَنْصرف بظاهرهِ إلى من له الأمر والنَّهي، ومن يجب اتِّباع سُنَّته، وهو رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال غيره‏:‏ لأنَّ مقصود الصَّحابي بيان الشَّرع لا اللغة ولا العادة، والشَّرع يتلقى من الكِتَاب والسُّنة والإجْمَاع والقِياس ولا يصح أن يريد أمر الكتاب، لكون ما في الكتاب مَشْهورًا يعرفه النَّاس، ولا الإجماع، لأنَّ المُتكلم بهذا من أهل الإجماع، ويستحيل أمره نفسه، ولا القياس، إذ لا أمر فيه، فتعيَّن كَوْن المُرَاد أمر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ ليسَ بمرفوعٍ، لاحتمال أن يَكُون الآمر غيره، كأمر القُرآن، أو الإجْمَاع، أو بعض الخُلفاء، أو الاستنباط، وأن يريد سنة غيره‏.‏

وأُجيب بِبُعدِ ذلك، مع أنَّ الأصل الأوَّل، وقد روى البُخَاري في «صحيحه» من حديث ابن شِهَاب، عن سالم بن عبد الله بن عُمر، عن أبيه، في قِصَّتهِ مع الحَجَّاج حينَ قال له‏:‏ إن كُنتَ تُريد السُّنة فهَجِّر بالصَّلاة‏.‏ قال ابن شِهَاب‏:‏ فقلتُ لِسَالم أفعلهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ وهل يَعْنُون بذلكَ إلاَّ سُنَّته‏.‏

فنقلَ سَالم، وهو أحد الفُقهاء السَّبعة من أهل المدينة، وأحد الحُفَّاظ من التَّابعين عن الصَّحابة أنَّهم إذا أطلقُوا‏:‏ السُّنة، لا يُريدون بذلكَ إلاَّ سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأمَّا قولُ بعضهم‏:‏ إن كانَ مرفوعًا، فلمَ لا يَقُولون فيه‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فجَوَابه‏:‏ أنَّهم تَرَكُوا الجَزْم بذلكَ تورعًا واحتياطًا، ومن هذا قولُ أبي قِلابة، عن أنَسٍ‏:‏ من السُّنة، إذا تَزَوَّج البِكْر على الثَّيب أقامَ عندهَا سبعًا‏.‏ أخرجاه‏.‏ قال أبو قِلابة‏:‏ لو شئتُ لقلت‏:‏ إنَّ أنَسًا رفعهُ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ أي‏:‏ لو قلتُ لم أكْذِب، لأنَّ قوله‏:‏ من السُّنة، هذا معناه، لكن إيراده بالصِّيغة التي ذكرهَا الصَّحابي أولَى، وخَصَّص بعضهم الخلاف بغير الصديق، أمَّا هو فإن قال ذلك فمرفوعٌ بلا خلاف‏.‏

قلت‏:‏ ويُؤيد الوقف في غيره، ما أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» عن حنظلة السَّدوسي قال‏:‏ سمعتُ أنس بن مالك يقول‏:‏ كان يُؤمر بالسَّوط فتُقطع ثمرتهُ ثمَّ يُدَق بين حَجَرين، ثمَّ يُضْرب به، فقلتُ لأنس في زمانِ مَنْ كان هذا‏؟‏ قال في زَمَانِ عُمر بن الخطَّاب‏.‏

فإن صرَّح الصَّحابي بالأمر، كقوله‏:‏ أَمرنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خِلافَ فيه، إلاَّ ما حُكي عن داود وبعض المُتكلمين‏:‏ أنَّه لا يكون حُجَّة حتى ينقل لفظه، وهذا ضعيف، بل باطل، لأنَّ الصَّحابي عدلٌ عارف باللِّسان، فلا يطلق ذلك إلاَّ بعد التحقيق‏.‏

قال البَلْقيني‏:‏ وحكم قوله‏:‏ من السُّنة، قولُ ابن عبَّاس في متعة الحجِّ‏:‏ سُنَّة أبي القاسم‏.‏

وقول عَمرو بن العَاص في عِدَّة أمِّ الولد‏:‏ لا تَلْبسُوا علينا سُنَّة نبينا‏.‏ رواه أبو داود‏.‏

وقول عُمر في المَسْح‏:‏ أصَبْت السُّنة‏.‏ صحَّحهُ الدَّارقُطْني في «سُننه»‏.‏

قال‏:‏ وبعضها أقرب من بعض، وأقربها للرَّفع‏:‏ سُنة أبي القاسم، ويليها‏:‏ سُنَّة نبينا، ويلي ذلك‏:‏ أصبتَ السُّنة‏.‏

ولا فرقَ بين قولهُ‏:‏ في حَيَاةِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أو بَعْدهُ‏.‏

ولا فرقَ بين قوله أي‏:‏ الصَّحابي ما تقدَّم في حياةِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أو بعده أمَّا إذا قال ذلك التَّابعي، فجزم ابن الصبَّاغ في العِدَّة أنَّهُ مرسل، وحكى فيه إذَا قالهُ ابن المُسيب وجْهين‏:‏ هل يَكُون حُجَّة أو لا‏؟‏ وللغزالي فيه احتمالان بلا ترجيح، هل يَكُون موقوفًا، أو مرفُوعًا مُرسلاً‏.‏

وكذا قوله‏:‏ من السُّنة له وجْهانِ، حكاهما المُصنِّف في «شرح مسلم» وغيره، وصحَّح وقفه، وحَكَى الدَّاودي الرفع عن القديم‏.‏

تكملة‏:‏

من المرفُوع أيضًا‏:‏ ما جاء عن الصَّحابي، ومثلهُ لا يُقَال من قبلَ الرَّأي، ولا مَجَال للاجتهاد فيه، فيُحمل على السَّماع، جزمَ به الرَّازي في «المحصول» وغير واحد من أئمة الحديث‏.‏

وترجم على ذلك الحاكم في كتابه‏:‏ معرفة المسانيد التي لا يذكر سندها، ومثَّله بقول ابن مسعود‏:‏ من أتَى سَاحرًا أو عَرَّافا فقَدْ كَفرَ بما أُنزِلَ به مُحمَّد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد أدخلَ ابن عبد البرِّ في كتابه «التَّقصي» عِدَّة أحاديث من ذلك، مع أنَّ موضوع الكتاب للمرفوعة، منها‏:‏ حديث سهل بن أبي حَثْمة في صَلاة الخَوْفِ، وقال في «التمهيد»‏:‏ هذا الحديث موقوف على سهل، ومثلهُ لا يُقَال من قبل الرَّأي‏.‏

نقل ذلك العِرَاقي وأشار إلى تخصيصه بصحابي لم يأخذ عن أهل الكتاب‏.‏

وصرَّح بذلك شيخ الإسْلام في «شرح النُّخبة» جازمًا، ومثَّله بالإخبار عن الأمُور المَاضية من بدء الخَلْق، وأخبار الأنباء الآتية، كالمَلاحم والفِتن، وأحْوَال يوم القِيَامة، وعمَّا يحصل بفعله، ثواب مخصوص، أو عِقَاب مخصُوص‏.‏

قال‏:‏ ومن ذلك فعله ما لا مجال للاجتهاد فيه، فينزل على أنَّ ذلك عنده عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الشَّافعي في صلاة عليٍّ في الكُسوف‏:‏ في كلِّ ركعة أكثر من رُكوعين‏.‏

قال‏:‏ ومن ذلك حكمه على فعل من الأفعال بأنَّه طاعة لله، أو لرَسُوله، أو مَعْصية، كقوله‏:‏ من صامَ يوم الشَّك فقد عَصَى أبا القاسم‏.‏

وجزم بذلك أيضًا الزَّرْكشي في «مختصره» نقلاً عن ابن عبد البر‏.‏

وأمَّا البَلْقيني فقال‏:‏ الأقرب أنَّ هذا ليس بمرفوع، لجَوَاز إحَالة الإثم على ما ظهر من القواعد، وسبقهُ إلى ذلك أبو القاسم الجَوْهري، نقلهُ عنه ابن عبد البر، وردَّهُ عليه‏.‏

الثاَّلث‏:‏ إذَا قيلَ في الحديث عندَ ذِكْر الصَّحابي‏:‏ يرفعهُ، أو ينميه، أو يَبْلُغ به، أو رِوَاية، كحديث الأعْرَجِ، عن أبي هُرَيرة رواية‏:‏ «تُقَاتلُون قومًا صِغَار الأعْيُن‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

الثَّالث‏:‏ إذا قيلَ في الحديث عند ذِكْر الصَّحابي‏:‏ يرفعه أو رفع الحديث أو ينميه، أو يبلغ به كقول ابن عبَّاس‏:‏ الشِّفاء في ثلاثة‏:‏ «شَرْبة عسل، وشَرْطة مِحْجَم، وكيَّة نار»‏.‏ رفع الحديث‏.‏ رواه البُخَاري‏.‏

وروى مالك في «الموطأ» عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال‏:‏ كان النَّاس يُؤمرون أن يَضَع الرَّجُل يدهُ اليُمْنَى على ذِرَاعه اليُسْرَى في الصَّلاة‏.‏ قال أبو حازم‏:‏ لا أعلمُ إلاَّ أنَّه ينمي ذلك‏.‏

وكحديث الأعرج، عن أبي هُرَيرة يبلغ به‏:‏ «النَّاسُ تبعٌ لِقُريش‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ أخرجَاهُ‏.‏

أو رِوَاية كحديث الأعرج، عن أبي هُريرة رواية‏:‏ «تُقاتلون قَوْمًا صِغَار الأعْيُن‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ أخرجه الشَّيخان‏.‏

فكُلُّ هذا وشَبههُ مرفوعٌ عندَ أهْلِ العِلْم، وإذَا قِيلَ عند التَّابعي‏:‏ يَرْفعهُ، فمرفُوعٌ مُرسل، وأمَّا قولُ من قال‏:‏ تفسير الصَّحابي مرفوعٌ، فذلكَ في تفسير يتعلَّق بسبب نُزول آية، أو نَحْوهُ، وغيره موقُوف‏.‏

فكلُّ هذا وشبههُ قال شيخ الإسلام‏:‏ كيرويه، ورواهُ بلفظ المَاضي مرفوعٌ عندَ أهل العِلْمِ، وإذا قِيلَ عند التَّابعي‏:‏ يرفعه أو سائر الألْفَاظ المذكورة فمرفوع مرسل‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ ولم يذكروا ما حكم ذلك، لو قيل‏:‏ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ وقد ظفرتُ لذلك بمثال في «مسند» البزَّار‏:‏ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم يرويه‏.‏ أي‏:‏ عن ربِّه عزَّ وجلَّ، فهو حينئذ من الأحاديث القُدسية‏.‏

تكملة‏:‏

ومن ذلك الاقتصار على القَوْلِ، مع حذف القائل، كقول ابن سيرين‏:‏ عن أبي هُرَيرة قال‏:‏ قال‏:‏ «أسْلم وغِفَار وشيء من مُزَينة‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

قال الخَطِيب‏:‏ إلاَّ أنَّ ذلك اصْطلاح خاص بأهل البَصْرة‏.‏

لكن رُوِيَ عن ابن سِيرين أنَّه قال‏:‏ كل شيء حدَّثتُ عن أبي هُريرة فهو مرفوعٌ‏.‏

فائدة‏:‏

أخرج القَاضِي أبو بكر المَرْوزي في كِتَاب العِلْم قال‏:‏ حدَّثنا القَوَاريريُّ، حدَّثنا بِشْر بن منصُور، حدَّثنا ابن أبي روَّاد قال‏:‏ بلغني أنَّ عُمر بن عبد العزيز كان يكره أن يَقُول في الحديث‏:‏ رِوَاية، ويقول‏:‏ إنَّما الرِّواية الشِّعر‏.‏

وبه إلى ابن أبي روَّاد قال‏:‏ كان نافع يَنْهاني أن أقُول‏:‏ رِوَاية، قال‏:‏ فربَّما نسيتُ فقلت‏:‏ رِوَاية فينظر إليَّ، فأقول‏:‏ نسيتُ‏.‏

وأمَّا قول من قال‏:‏ تفسير الصَّحابي مرفوعٌ، وهو الحاكم قال في «المُسْتدرك»‏:‏ ليَعْلم طالبُ الحديث أنَّ تفسير الصَّحابي الَّذي شَهِدَ الوَحْي والتَّنزيل عند الشَّيخين حديثٌ مُسند‏.‏

فَذَاكَ في تفسير يتعلَّق بسببِ نُزُول آية، كقولِ جابر‏:‏ كانت اليَهُود تقول‏:‏ من أتَى امرأتهُ من دُبُرها في قُبُلها، جَاء الولد أحْوَل، فأنزلَ الله تعالى‏:‏ ‏{‏نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ الآية رواه مسلم‏.‏

أو نحوه مِمَّا لا يُمكن أن يُؤخذ إلاَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا مَدْخل للرَّأي فيه، وغيره موقوف‏.‏

قلتُ‏:‏ وكذا يُقَال في التَّابعي، إلا أنَّ المرفوع من جهته مُرْسل‏.‏

فوائد‏:‏

الأولى‏:‏ ما خصَّص به المصنِّف، كابن الصَّلاح ومن تبعهما، قول الحاكم، قد صرَّح به الحاكم في «عُلوم الحديث» فإنَّه قال‏:‏ ومن الموقُوفات ما حدَّثناه أحمد بن كامل بسندهِ عن أبي هُرَيرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 29‏]‏ قال‏:‏ تلقَّاهم جهنَّم يوم القِيَامة فتلفحهم لَفْحة، فلا تترك لَحْمًا على عَظْم‏.‏

قال‏:‏ فهذا وأشْباههُ يُعد في تفسير الصَّحابة من الموقوفات، فأمَّا ما نقول‏:‏ إنَّ تفسير الصَّحابة مُسْند، فإنَّما نقوله في غير هذا النَّوع، ثمَّ أورد حديث جابر في قِصَّة اليَهُود‏.‏

وقال‏:‏ فهذَا وأشْبَاههُ مُسْند ليسَ بموقوف، فإنَّ الصَّحابي الَّذي شَهِدَ الوحي والتَّنزيل، فأخبرَ عن آية من القُرآن أنَّها نزلت في كَذَا، فإنَّه حديثٌ مُسند‏.‏ انتهى‏.‏

فالحاكم أطْلق في «المُستدرك» وخصَّص في «علوم الحديث» فاعتمدَ النَّاس تخصيصه، وأظن أنَّ ما حملهُ في «المُستدرك» على التَّعميم الحِرْص على جمع الصَّحيح، حتَّى أورد ما ليسَ من شَرْط المرفُوع، وإلاَّ ففيه من الضَّرب الأوَّل الجَمُّ الغفير، على أنِّي أقول‏:‏ ليس ما ذكرهُ عن أبي هُريرة من الموقُوف لِمَا تقدَّم من أنَّ ما يتعلَّق بذكر الآخرة، وما لا مَدْخلَ للرَّأي فيه من قَبِيلِ المرفوع‏.‏

الثَّانية‏:‏ ما ذكرُوه من أنَّ سبب النُّزول مرفوعٌ‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ يُعكِّر على إطلاقه ما إذا أسقطَ الرَّاوي السَّبب، كما في حديث زيد بن ثابت‏:‏ أنَّ الوُسْطَى الظُّهر‏.‏ نقلته من خطِّه‏.‏

الثَّالثة‏:‏ قد اعتنيتُ بما وردَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في التَّفسير وعن أصحابه، فجمعت في ذلك كتابًا حافلاً فيه أكثر من عَشْرة آلاف حديث‏.‏

الرَّابعة‏:‏ قد تقرَّر أنَّ السُّنة قولٌ وفعلٌ وتقريرٌ، وقسمها شيخ الإسلام إلى صريح، وحُكم‏.‏

فمثالُ المرفُوع قولاً صَريحًا‏:‏ قول الصَّحابي‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وحدَّثنا وسمعتُ‏.‏

وحُكْمًا‏:‏ قوله‏:‏ مالا مَدْخلَ للرَّأي فيه، فالمرفوع من الفعل صريحًا قوله‏:‏ فعل، أو رأيته يفعل‏.‏

قال شيخنا الإمام الشَّمني‏:‏ ولا يتأتى فعل مرفوع حُكمًا‏.‏

ومثَّله شيخُ الإسلام بما تقدَّم عن علي في صلاة الكُسُوف‏.‏

قال شيخنا‏:‏ ولا يَلْزم من كَوْنه عندهُ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنْ يَكُون عندهُ من فِعْلهِ لجَوَازِ أن يَكُون عندهُ من قوله، والتقرير صريحًا قول الصَّحابي‏:‏ فعلتُ، أو فُعِلَ بحضرته صلى الله عليه وسلم، وحُكمًا حديث المغيرة السَّابق‏.‏